تحليل قصيدة في الليل لبدر شاكر السياب

في الليل
الغرفة موصدة الباب
والصمت عميق
وستائر شباكي مرخاة
رب طريق
يتنصت لي ، يترصد بي خلف الشباك ، وأثوابي
كمفزع بستان ، سود
أعطاها الباب المرصود
نفسا ، ذر بها حسا ، فتكاد تفيق
من ذاك الموت ، وتهمس بي ، والصمت عميق :
’’ لم يبق صديق
ليزورك في الليل الكابي
والغرفة موصدة الباب ‘‘
ولبست ثيابي في الوهم
وسريت : ستلقاني أمي
في تلك المقبرة الثكلى،
ستقول : ’’ أتقتحم الليلا
من دون رفيق ؟
جوعان : أتأكل من زادي :
خروب المقبرة الصادي ؟
والماء ستنهله نهلا
من صدر الأرض :
ألا ترمي
أثوابك ؟ والبس من كفني ،
لم يبل على مر الزمن ؛
عزريل الحائك ، إذ يبلى ،
يرفوه . تعال ونم عندي :
أعددت فراشا من لحدي
لك يا أغلى من أشواقي
للشمس ، لأمواه النهر
كسلى تجري ،
لهتاف الديك إذا دوى في الآفاق
في يوم الحشر ‘‘ .
سآخذ دربي في الوهم
وأسير فتلقاني أمي .
لندن 27 – 2 - 1963
تكسيرالبنية
نص شعري(1)
في الليل بدر شاكر السياب


لقد ظل الشعر العربي خاضعا للمعايير النقدية التي تبلورت عند الحركة الرومانسية بمدارسها الثلاث الى حدود سنة 1948. اذ عرف العالم في هذه السنة حدثا كان له وقع شديد٬ فقد شرد الشعب الفلسطيني ٬واصيبت الشعوب العربية بخيبة امل كبرى٬ وكان المثقفون اكثر تاثرا من غيرهم بهذه الفاجعة فراحو يبحثون عن اسبابها وعن الطريق للخروج منها٬ فانتهى بعضهم الى القول بضرورة احداث تغيير جذري في الثقافة العربية الاسلامية لانها هي اللتي تكيف سلوكنا. وفي هذا السياق ظهرت حركة الشعر الحديث التي خطت اشواطا اكثرجذرية من الحركة الرومانسية.
من حيث المضمون ادخلت موضوعات جديدة تبنت مايمكن تسميته بالرومانسية الثورية وفيها انطلاق من الذات ٬لكنها الذات الممزوجة بالجماعة ٬وفيها محاكاة للداخل٬ لكنه الداخل المخلوط بالخارج الذي يشكله الواقع الاجتماعي٬ والشعب٬ وهموم الوطن من زاوية اولى.
من حيث الشكل اعتمدت تعدد الوزن٬ وتراوح القافية ٬واسقاط وهم اللغة المثالية والشعرية النقية بذاتها٬ والتحول الى الاداء البسيط الميسور البعيد عن المعاجم الغليظة٬ مع ما يرفد ذلك كله من تلاقح او تناص مع الثقافة واللغة والاساطير الغربية.
من حيث فلسفة الانشاء الشعري ذاتها فقد جسدت حركة الشعر الحديث مبدا الا ثبات خالدا لاي صيغة شعرية لان الصيغ اقتراح العصور التاريخية والاجتماعية مسقطة بذلك قداسة اي اطار ابداعي ودوامه.
وتتناغم القصيدة فيد الدرس مع مبادئ حركة الشعر الحديث؛ حيث يعبر السياب عن قضية التجربة مع المرض با عتبارها قضية انسانية؛ منطلقا من تجربته الفردية الخاصة موحدا بذلك بين الخاص والعام.
ورد عنوان القصيدة تركيبيا شبه جملة ؛وهو دلاليا حمال معان فالليل يوحي بالوحشة والخوف والغربة والوحدةوالمعاناة؛٬ وتتضح هذه الدلالة اكثر عند ربطنا للعنوان بالسطر الشعري الاول من القصيدة اذ يخبرنا الشاعر با نغلاق باب الغرفةليلا مما يراكم معنى القهر والمعاناة وانحسار الامل ٬وتنصهر كل هذه الايحاءات لكي تعكس لنا تجربة السياب مع المرض؛ الشاعر العراقي الذي يعد الى جانب نازك الملائكة رائد حركة الشعر الحديث ٬وهو من مواليد1926 بقرية جيكور بالبصرةلاسرة متوسطة الحال.ماتت امه وهو في سن السادسة فرعته جدته وقد توفي بالكويتعام 1964 من دواوينه انشودة المطر المعبد الغريق التي عبر فيها بعمق عن رؤية جديدة للحياة تتفاعل فبها ثنائية الحياة والموت.فالى اي حد استطاع السياب في هذه القصيدة تفجير المضامين القديمة وتكسير بنية القصيدة التقليدية؟

يكاشفنا بدر شاكر السياب في هذه القصيدة بتجربته المريرة مع المرض فقد استهل قصيدته بوصف غرفته بمستشفى لندني وقد حف به الصمت المطبق وانتابه الخوف حتى تهيا له ان كل مايحيط به ياتمر عليه كي يقتله مثلما تخيل انه انتجع وهما امه في المقبرة فرحبت به ودعته الى النوم بجانبها ليختم القصيدة باصراره على الرحيل اليها.
نلاحظ ان النغمة الطاغية على القصيدة هي نغمة الحزن والوحدة والتمزق والضياع او الغربة في العجزفالشاعر معتل تطوقه الجدران ويجثم الحزن على صدره فيكاد يخنقه .ان ذات الشاعر هنا غير منفصلة عن واقع امتها الحضاري.
ان جدة التجربة وقيمتها تتوقفان على جدة وسائل التعبير عنها وعلى ما تزخر به تلك الوسائل من دلالة فنية وسيتضح ذلك من خلال الحقول الدلالية.
من بين الحقول التي تتوزع النص هناك حقل الزمان: في الليل الزمن يوم الحشر...وحقل المكان: الغرفة المقبرة الارض اللحد...تقوم بين الحقلين علاقة جدلية تعكس مرارة معاناة اللشاعر مع المرض.
تتسم لغة القصيدة انطلاقا من الحقول الدلالية بايثار العبارة الفخمة:موصدة ذر بها حسا الثكلى ٬واعتماد لغة انزياحية: رب طريق يتنصت لي ٬وحضور النفس الدرامي: يترصدبي يهمس بي.
بالنسبة للصور الشعرية فقدوظف السياب الانزياح رب طريق يتنصت لي فقد اسند الشاعر فعل الانصات الى الطريق خارقا بذلك افق انتظار المتلقي.
على الرغم من كل هذا الذي تحقق للقصيدة الحديثة من تطور على صعيد اللغة وعلى صعيد التصوير البياني فان اكثر ما لفت انظار جمهور القراء هو التطور الذي اصاب اسسها الموسيقية فقد بنىالشاعر قصيدته على تفعيلة المتدارك فاعلن التي دخلتها بعض الزحافات والعلل وقد فتت الشاعر بذلك الوحدة الايقاعية للبيت الشعري التقليدي. لقد مثلث قصيدة في الليل لبدر شاكر السياب خطاب تكسير البنية شكلا ومضمونا.فعلى مستوى المضمون ا ستوعبت تيمات جديدة الغربة والضياع وعلى مستوى الشكل اعتمد الشاعر لغة مستوحاة من الحديث اليومي المالوف وصورا شعرية جديدة تقوم على الرمز وتفتيت الوحدة الايقاعية للبيت الشعري
فهل امتلكت هذه المكتسبات خلق التصور الحقيقي للشعر؟.