الهاوية

من طرف سعيد الفلاق الثلاثاء فبراير 04, 2014 9:35 am

الــــهـــــــــا ويــــــــــــة

ابتسم الصباح ، مفصحا عن ثغره ، طاردا الظلام من مملكته ومرديه قتيلا ، ودبت الحركة في الأزقة ، فنهض ابن الحي ، بعد أن صفعته حرارة الشمس ، وهو نائم في كهفه القز ديري .

خرج من المنزل يجر أذيال الخيبة ، تاركا وراءه ماض مليء بالذكريات المريرة ، فقد هجر القلم والحرف منذ زمن سحيق ، وانقطعت أواصل قرابته بالمدرسة منذ أن كان سنه سبعة حروف أو ثمانية سطور . وهو اليوم في سن الزهور ، همه الوحيد هو توفير سيجارة أو حقنة يشاركها مع ندمائه ليجعلها بلسما شافيا لجراحه الدامية .

في مقهى الحي يقضي صباحه ومساءه ، ينفث أحلامه بخارا ودخانا . يعلم أن الفقر استوطنه منذ زمان وبنى في تجاويف فؤاده تمثال خرب تراه من بعيد كأنه خيوط عنكبوت وعندما تقترب منه تفاجأ بأنه بقايا ذات طحنها غدر الزمن . مل من الوطن ومل الوطن منه ، كل يوم يتجه الى المرسى ، ليراقب أحلامه وهي تكبر وتنمو قبل أن تنسف بالكامل ؛ أحلام فقير طعنه مكر الزمن يرقب هذه الأحلام عن كثب ويقبلها ويصوغها ، ليختصرها في جملة واحدة : أن يعبر الى الضفة الأخرى ، هذه الفكرة التي لا طالما شغلت خلده . واليوم اهتدى الى الحل ، فقد وجد من يساعده إنه سمسار البحر أو هكذا يحبون أن يسمونه . توجه اليه ابن الحي ليصنع له مركبا يغنيه عن حب الوطن ، ما ان وصل الى مكتبه حتى وجد كتلا بشرية متراصة كالبنيان تشكل صفا طويلا ، انتظر ابن الحي لساعات عديدة قبل أن يتمكن من لقاء السيد السامي :

- سيدي أنت تعرف لماذا قصدتك ؟

- نعم اعتبر نفسك وصلت ، قدم المال و اهنأ .

- كم ؟

- مليون سنتيم .

وخرج ابن الحي مطأطئا رأسه ، شارد الذهن ، يسير بخطوات متباعدة ، يفكر كيف يدبر المال ، ولا صوت يعلو في خاطره غير صوت سمسار البحر : "اعتبر نفسك وصلت " ، أخيرا انفرجت شفتاه عن ابتسامة خجولة ، هامسا مع قرارة نفسه " نعم سأسرق المال الذي وفره أبي ليزوج به أختي ، وبعد أن أصل الى هناك سأرسل لهم المبلغ مضاعفا ...".

أخذ المال و استعد للرحيل ، بعد أن علم أن القارب سيبحر هذا المساء بعد أن يجن الليل . وجلس على الرصيف يكتب دفتر أحلامه :" نعم سيصبح لي المال الوفير ، لا أمل في هذا الوطن ، لا بد أن أقطع البحر (...) سأبدل ثوب الفقر بثوب الرخاء وستكون لي سيارة ، منزل ، عمل (....) لابد أن أحقق أحلامي لن أستسلم للحياة ، فإن كان هذا الوطن لا يعترف بالفقراء مثلي سأصنع وطنا لنفسي أكون أنا سيده و عرشا أكون أنا ملكه ".

اقترب منتصف الليل واجتمع الحشد في ساحة الرمال ، ينتظرون المركب الخشبي الذي سيقلهم الى ديار الحضارة والتأنق ، والجو بارد يلسع ، والسماء تنذر بشر .

أخير وصل قارب الحياة ارتمى الكل في أحضانه ، فرحين مغتبطين ، الى أن امتلأ عن آخره ، وانطق في اتجاه الشمال ، وبعد ساعات من المسير ، حتى لاحت للجميع فقاقيع الضفة الاخرى ، وعاد ابن الحي قائلا بنبرة فيها أمل "أخيرا سيتحقق حلمي لم يبق إلا القليل ، وبدأ يعد الدقائق و الثواني ، لكن سرعان ما كشف البحر عن أنيابه ، مشمرا عن ذراعيه ، متحجر القلب لا يعرف للرحمة سبيلا ، ولا للرأفة طريقا ، معاند كعادته يفترس كل من اعترض سبيله . ارتفع صخب الأمواج ، وارتفع معه عويل الركاب ، وبلغ الذعر مداه . وبدأ المركب الخشبي يتمايل يمنة ويسرة ، كأنه أوراق الأشجار ترقص تحت أغاني الرياح الشتوية ، وبدأ اليم يمتص القارب الصغير رويدا رويدا الى أن انطفأت شمعته وتوقف قلبه عن النبض .

هذا هو ابن الحي خمدت أحلامه فجأة ، ودوت صرخته ، كان له أمل أن يصل الى الضفة الأخرى كبقية ندمائه ، ووصل اليها أخيرا مغطى بغشاء بلاستيكي ، والذباب يحوم فوق جثته يعزيه آماله وأحلامه ، في انتظار أن يعود الى أهله ووطنه حاملا معه الهدايا وباقات الزهور .

مسكين ابن الحي ومن معه ضاق بهم صدر الوطن ، فكفت حفرة القبر بعضهم ، وكفى قعر البحر البعض الآخر .

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

بقلم : سعيد الفلاق المدرسة العليا للأساتذة الرباط / 2014-2015 .

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

من طرف **ƒŎŨảḊ.Ḿ** السبت فبراير 08, 2014 6:04 pm

قصة جميلة جدا على الرغم من مسحة الحزن التي تغلفها والمآسي التي تثويها..وللأسف هذا ما يحصل في وطننا العربي ..فالكل يولي وجهه شطر الغرب من أجل تحسين وضعيته الاجتماعية لأن وطنه عجز عن احتضانه بكرامة..وبطل القصةنموذج صارخ لما سبق ذكره..
حبكة منتظمة وأسلوب راقي يعبر عن رقي صاحبه...
أيها السعيد...سعدت كثيرا بتواجدك معنا وتأكدت أن الجسم التعليمي لازال بخير وفيه أمثالك
وفقك الله ورعاك
دمت عنوانا للتميز
لك معزتي والبياض
*/*فؤاد*/*

من طرف بثينة الصفار السبت فبراير 08, 2014 6:20 pm

جميل ما قراته لك اخي سعيد والاجمل منه الوعاء اللغوي الذي البسته قصتك..قصة رائعة.. راقتني بشدة...

دام ألقك
لك تحياتي

من طرف لمى الراجحي السبت فبراير 08, 2014 6:35 pm

ما اروع اسلوبك يا سعيد، صدقني قصتك هذه ممتعة ، متراصة الاحداث ، محبوكة المتن ، سليمة اللغة سهلتها بعيدا عن التقعر والإغراب..

من طرف غزال الأطلس السبت فبراير 08, 2014 8:05 pm

النص يحرك في القارىء شغف المتابعه وعنصر التشويق في النص كان له حضور مميز ..قصة جميله وجدتها لوحة فسيفساء جمعت العديد من الألوان الشاعريه
كل التقدير لهذا الأبداع المتميز ..
لك صادق التحايا

من طرف ba7tich bougrine الأحد فبراير 09, 2014 2:36 pm

اسرتني بكلماتك حتى اصبح لساني عاجزا عن الرد لك باقة ورد من الشكرو الاجلال لانك تسقيني دوما المزيد من العطاء

الإثنين	الثلاثاء	الأربعاء	الخميس	الجمعة	السبت	الأحد
		1	2	3	4	5
6	7	8	9	10	11	12
13	14	15	16	17	18	19
20	21	22	23	24	25	26
27	28	29	30	31

الهاوية

الهاوية

رد: الهاوية

رد: الهاوية

رد: الهاوية

رد: الهاوية

رد: الهاوية